عبدالعزيز صبره الرفاعي:
المجذوب ال يعرف ” القرش” يبقى مش مجذوب، هكذا يُقال في ساحات التصوف، وقبل أن نشرح ذلك نعرج على العنوان الذي نعلم أنه سيستفز الكثيرين، نعم هي نهاية عصر المجاذيب وبداية عهد التصوف الحقيقي الراقي، أو ما أستطيع أن أسميه -أنا العبد الفقير إلى الله كاتب هذه الكلمات- وبأسلوب ومفردات صوفية، إننا نشهد فترة “ترقي المدد”
فالملاحظ لمن هم في الطريق أو في المدد أو أبناء المدد، أن التصوف ينتشر داخل مصر وخارجها في مختلف الشرائح والأوساط والمستويات العلمية والمهنية والاقتصادية، وهو أصلا منتشر على كافة ما أشرنا إليه، وأن هذا الانتشار تحول لظاهرة شبه عالمية.
وترجع الأسباب الظاهرية وراء ترقي المدد إلى عوامل عديدة لا سبيل لحصرها في مثل هذا المقال، وإن كنت أستطيع القول أن أهمها هو إرهاق المادية للعالم، وظهور حقيقة وفشل التيارات الدينية المتشددة الإرهابية.
نعود إلى المجذوب الحقيقي، وببساطة هو المجذوب بالحب، فشغله الحب والعشق الإلهي عن الدنيا، معنى قريب من معنى درويش المحدد بأن الدرويش في أهم تفسيراتها بمعنى دار وجهه عن الدنيا أو بالعامية المصرية أكثر (دار وشه عن الدنيا) واتجه إلى الآخرة فقط.
فالمجذوب الحقيقي لا وعي له لا هم له لا شاغل له عن الله ومشاهدة الأنوار، لدرجة انه قد لايدري هل هو عريان أم لا، تكفيه كسرة خبز وشربة ماء لينتقل من بلد الى بلد ، لا يتاثر ببرد ولا بحرارة..
ولكن، كيف يحدث المجذوب بهذا الشكل، غالبية ما سمعته من تفسير تلك الظاهرة من مشايخنا الحقيقيين في التصوف أن هذا المجذوب هو إنسان مسكين، وغالبا هو مريد تجرأ أو تعجل الوصول وردد أذكار وتسابيح وأوراد بدون شيخ أو بدون شيخ متمكن، وقد تحدث له بعض الفتوحات المفاجئة، ويُشاهد أنواراً لا قبل له بها، إذ يتبع المشايخ المتمكنيين مع مريديهم إسلوب التدريب والتدرج والمتابعة عن قرب وعن بعد.
إلا أن المجاذيب كان لهم دور في فترات تعرض فيها التصوف لاضطهاد، عبر التاريخ منها فترات قريبة، فكل المجاذيب ليسوا في حالة توهان كامل، ولكنهم قد يغلب عليهم الحب والعشق والهوى، ويجسدون مبادئ التصوف الحقيقي من زهد وورع ورضا وعزوف عن الدنيا وإنشغال بالله وحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومنهم من لجأ للجبال، فكانوا وعاءاً حافظاً للتصوف، نقلوه من جيل إلى جيل ، حتى وصلنا الآن إلى فترة نهاية عصر المجاذيب
.
ومع بداية عهد التصوف الراقي وكما يعبر عنه الصوفية الآن بلغتهم السهلة والدارجة والمنطلقة من الواقع حيث يقولون: “المجاذيب لبسوا بِدَل وكرافتات”.. تعبيرا عن التطور أو ما أسميه الترقي
الحقيقة إن طول عمر التصوف يضم ملوك ورؤساء وقادة جيوش منتصرين ووزراء وأطباء ومفكرين وأدباء ورجال دين من المؤسسة الرسمية من رجال الأزهر الشريف في مصر وفي غيرها، ولكن الانتشار الآن والترقي غير مسبوق..
وفي تفسيري المتواضع لذلك وهذا كلام أستأذن فيه قارئي الصوفي الحقيقي سواء كان أخ فاضل لي في الطريق، أو عم وشيخ أدين له بالفضل والعرفان أو سيد من السادة الأفاضل الكرام الكوامل حيث أقول إنه مجرد مدد ومحض فضل ، أراد الله به، فسبب الأسباب وهيئ الكون…وزي ما بتقولوا :”مدد يا أصحابها”
مصر بتتدروش.. مقولة يُطلقها بعض المغرضون، والحقيقة هي مصر مش بتتدروش ولا حاجة، مصر بتعود لطبيعتها ، فمصر هي معقل الوسطية المعتدلة والتصوف الإسلامي طول عمرها، والتصوف بمعنى التجرد من شواغل الدنيا ، والانشغال بما هو واجب على الفرد من عمل وكسب للرزق الحلال وعمارة وصيانة وطنه والمحافظة عليه بالروح، وحُب الجار والناس آجمعين، وعدم الانشغال بالآخرين، والتخلص من أحقاد النفس ومن كل كره وبغض وعدم النظر إلى أي كائن من كان بنظرة سيئة، والالتزام بالعبادات التي فرضها الله، يقول لي شيخي دائما: ” ياولدي ، إحفظ عليك لَسانُك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك…”
الحقيقة أن مصر تخلص من غزو وهابي تشددي إرهابي، وتنكشف هنها القشرة الوهابية الخارجية وتزول عنها الغيامة التشددية التي انتشرت وعمت بعوامل سياسية واقتصادية وملاطفة من الدولة لبعض الدول في الجوار خلال العقود الماضية، ولكن كل الأسباب الآن قد زالت ومصر تعود إلى طبيعتها الصوفية الوسطية المعتدلة..
ونعود مرة أخرى إلى أول جملة “المجذوب ال يعرف الجنيه يبقى مش مجذوب” وهذه الجملة تعبر عن كثير من بعض المظاهر غير الجيدة الطارئة على التصوف، ومنها ادعاء الجذب، وفيه يقول مشايخنا، الحال الصادق لا يمكن استدعاؤه، هو حالة تأتي لصاحب الحال من التوهان أو الوجد الشديد، .. لا يدري فيها ماذا يفعل ..وحط ايدك على محفظته أو جيبه ولودري أو اتخض عليها يبقى بيمثل، ومن يطلب الصدقات أو النفحات ويصر على الخمسة جنيه أو العشرين جنيه ..يبقى مش مجذوب .. المجذوب الحقيقي لا يطلب شيء وقد يبقي أيام وليال بلا طعام ولا يطلب…
عامة هذه ظاهرة تنتهي بشكل او بآخر، إلا أن الجذب أو الانجذاب إلى الله هو غاية المريد أو السالك الطريق إلى الله ، ولكن كما يقول سادتنا ومنهم السيدة زكية بدوي : اللهم جذباً في القلب وثباتاَ في العقل، ويقول سيدنا ابن عطاء الله السكندري: “إلهي اطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أصل إليك”، ويقول سيدنا أبو الحسن الشاذلي:
” رب خذني إليك مني و ارزقني الفناء عني و لا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسي ..”
ويقول سيدنا أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه وأرضاه، في دعاء في حزب الأسرار: ” اللهم يا من أجرى محبته في مجاري الدم من المشتاقين، وقهر سطوات الشك بحسن اليقين، اثبتنا في ديوان الصديقين، واسلُك بنا سبل أولي العزم من المرسلين، حتى تصلح بواطننا من لطائف المؤانسة، ونفوز بالغنائم من تحف المُجالسة، وألبسنا اللهم جلباب الورع الجسيم وأعذنا من البدع والضلال الأليم، فقد سألناك بصدق الحاجة والاعتذار، والإقلاع عن الخطايا بالاستغفار، أمرتنا اللهم بالسؤال فجاءتك قلوبنا بالافتقار، ونظرت إليك مُقل الأسرار بسلطان الأقدار، فاجبر اللهم ذل انكسارنا بلطف الاقتدار، وجنبنا اللهم الإصرار من فنون الأشرار، حتى تسلك بنا سُبل أولي العزم من الأخيار، صل على محمد وآل محمد الآطهار وسلم ….
ونعود إلى الحديث عن ترقي المدد أو تطور التصوف وإن كانت الحقيقة هي تنقية التصوف من بعض مخالفات، فالصوفية في النهاية وهم في مصر عددهم يتخطى بضع ملايين على الأقل ينتمون لما يزيد عن 88 طريقة صوفية رسمية قانونية معتمدة إلا أنهم في النهاية بشر، والوصول إلى الكمال مُحال، فلا كامل إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كمله الله بحبه
ويأخذ البعض على الصوفية بعض مظاهر الاختلاط بين الرجال والنساء، في حلقات الذكر، ويُستخدم هذا في التشنيع على التصوف في محاولات بائسة للتصدي لانتشار المدد، فمعظم المتصوفة يمنعون الاختلاط ، وكان الشيخ صالح الجعفري من أئمة الأزهر الشريف وصاحب درس الجمعة الشهير وشيخ الطريقة الجعفرية وهي على نفس النهج ، كان يمنع حضور النساء حلقات الذكر، وكان الشيخ محمد المهدي عساسة يفصل بين النساء والرجال في حلقات الذكر، لدرجة أنه كان يسد ثقب الباب المغلق بين الطرفين
ولكن يجب أن نقول أن الصوفية من طبيعتهم لا يظهرون الحسن ويخفون السئ، بل هم ناس يتعاملون ببساطة، ويعيشون على طبيعتهم دون ادعاء أو تشدق، وقد يظهرون السئ ويخفون الحسن في أنفسهم .. على عكس من يظهر صورة زائفة ويخفي ما يعلمه الله …
ولأن الأمور واضحة وصريحة ومزعلة ناس بيكرهوا التصوف وبيكرهوا مصر، ولأن مصر الآن تخطو خطى واضحة وصريحة لاستعادة هويتها الصوفية المعتدلة ، فالدولة حريصة من جهتها على تقديم صورة طيبة ولائقة من خلال تفادي بعض الصور غير الجيدة وأعلم أن الدولة تخاطب مشايخ الصوفية في هذا الأمر بشكل رسمي …