أ، ب، ألف باء تصوف.. كيف تتصوف يا فتي؟ تعالى سوياً بسهولة وبساطة (نستهجى) ونتعلم التصوف واحدة واحدة .. خطوة خطوة بدون تعقيد أو خوف من الوقوع في أمور مثل الجذب أو الدروشة التي قد يخجل منها البعض .. الحلقة الأولى :
لفظ صوفي..صوفية
أول أمر هنبسطه مع بعض.. يعني أيه تصوف أو صوفي، لإن في الكتب هتلاقي آلاف التعريفات وهتوه من كثرتها
ببساطة أقول لك كل التعريفات تؤدي بعضها إلى بعض ، فكلها معاني جميلة، والتصوف كأنه صورة رائعة جميلة، وكل إنسان يقف في ناحية يصف المشهد البديع من زاويته ، فكل الأوصاف صح، ويكمل بعضها بعض ..
وباختصار، كلمة صوفي أو صوفية جاءت بتعريفات كثيرة لا تعارض بينها ، واللفظ نفسه يحمل أسرار حتى أنه يتوافق مع جميع التعريفات
الصوفية : نسبة إلى لبس الصوف، لأن القوم أهل تقشف ولبسوا الصوف لأنه متين ورخيص والأطول عمراً ويتحمل ولا يبلى سريعاً..والتصوف مبدأه عدم المغالاة وترك التفاخر..والصوف خشن، وهم يبتعدون عن كل يجعلهم يميلون إلى الدنيا حتى لا يركنوا إليها ..ولكننا هنا نتكلم عن كبار الصوفية الأوائل الذين طلقوا الدنيا وأقبلوا على الآخرة ..فقدر الإمكان نتمثل بهم.
الصوفية : نسبة إلى الصف الأول في الجهاد .. جهاد العدو ..جهاد النفس.
الصوفية: أهل الصُفة، صُفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم قوم كانوا يعيشون في مسجد رسول الله تركوا الدنيا ووهبوا أنفسهم للجهاد ..وكانوا من الصحابة أي عاشوا وعاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهم النبي كثيراً..ولا يتسع المقام حالياً في الحديث عن فضلهم.
الصوفية: نسبة إلى الصِفة الجميلة.
الصوفية: من الصفاء لله.
الصوفية: نسبة لكلمة سوفيا اليونانية وتعني الحكمة أو حب الحكمة، ولكن كلمة (صوفية) أستخدمت في العربية وسبقت الترجمة من اليونانية، بل ويذهب البعض إلى أن اليونانية قد تكون هي التي أخذت كلمة الصوفية من العربية لأنها موجودة حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكل ما سبق وغيره كثير تعريفات جميلة وتتوافق جميعها حول كلمة صوفي أو صوفية ..
تعريف التصوف:
ثلاث تعريفات رئيسية للتصوف ، هو التصوف الأخلاقي، وتعريف التصوف بأنه الزهد، وتعريف التصوف بالعبادة أو الصوفي هو العابد
فالتصوف الأخلاقي هو الأكثر شيوعاً عند الصوفية، وغيرهم، يقول أبو بكر الكتاني المتوفي سنة 322هجرية: التصوف خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق، زاد عليك في الصفاء.
وتروي الرسالة القشيرية: أن أبا محمد الجريري المتوفي سنة 311 هجرية قال: التصوف هو الدخول في كل خُلُق سَنِيّ، والخروج من كل خُلُق دَنِيّ
وأحد تعريفات أبي الحسين النوري، للتصوف، كما جاء في (تذكرة الأولياء)، ينفي عن التصوف أن يكون رسماً، أو عِلماً، ويحدده بأنه خُلق. يقول:
ليس التصوف رسماً، ولا عِلماً، ولكنه خُلق، ثم يعلل ذلك بقوله: لأنه لو كان رسماً، لحصل بالمجاهدة، ولو كان عِلماً، لحصل بالتعليم، ولكنه تَخلُق بأخلاق الله، ولن تستطيع أن تقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم، ويحدد أبو الحسين النوري في تعريف آخر الأخلاق التي يتكون منها التصوف فيقول: التصوف : الحرية، الكرم، ترك التكلف، والسخاء.
وهؤلاء الذين ذكروا أن التصوف أخلاقي ذكروا مع ذلك تعريفات أخرى مما يدل على أنهم يرون أن الجانب الأخلاقي لا يكفي في تعريف التصوف.. على أنه من الطبيعي أن تكون الأخلاق الكريمة أساساً مهماً من أسس التصوف ..
الزاهد :
أما الزهد فهو أول ما يتبادر للذهن عند ذكر كلمة الصوفي أو الصوفية، فالصوفي هو الزاهد في الدنيا، فالزهد أيضاً أحد أسس ومظاهر التصوف.. وقد يكون بمعنى أن تكون الدنيا في اليد وليس في القلب ، فالتصوف أوسع وأشمل من الزهد
العابد:
ويخلط كثير من الناس بين الصوفي والعابد، فإذا ما رأوا شخص كثير العبادة قالوا عنه إنه صوفي ، ولا ريب أن الصوفي كثير العبادة، ولكن قد تجد أشخاصاً كثيرين يقيمون الفرائض، ويكثرون من النوافل ولا يكون معنى ذلك أنهم من الصوفية
شرح ابن سينا:
ويشرح ابن سينا : ويفرق بين الزاهد والعابد والصوفي وبين أهداف كل منهم:
1- المُعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يُخص باسم (الزاهد)
2- المُواظب على فعل العبادات، من القيام والصيام ونحوهما، يُخص باسم (العابد)
3- المنصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً لشروق نور الحق في سره يُخص باسم (العارف)
.. والعارف عند ابن سينا هو (الصوفي)
وبحسب ابن سينا قد يكون الزاهد عابداً ، فيمتزج الزهد والعبادة في شخص واحد، ولا يكون بعبادته وزهده معاً صوفياً .. ولكن الصوفي لا محالة، زاهد عابد.
وهذه التفرقة هي من حيث الهدف، كما عند السيدة رابعة العدوية رضي الله عنها، وغيرها ..والكل يتفق على أن زهد غير الصوفي هدفه الاستمتاع في الآخرة، فهو نوع من المعاملة، كأنه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة.
أما الصوفي:
فإنه يزهد في الدنيا لأنه يتنزه عن أن يشغله شئ عن الله.
وعبادة غير الصوفي هدفها الجنة.. كأنه يعمل في الدنيا، لأجرة يأخذها في الآخرة، هي الأجر والثواب، فمثله كمثل الأجير، يعمل طوال النهار ليأخذ أجره بالليل.
عبادة الصوفي هي استدامة لصلته بالله تعالى، إنه يعبد الله لأنه مستحق العبادة، ولأنها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة.
رابعة العدوية:
رضي الله عنها – رابعة العدوية – تقول : ما معناه، اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فألقني فيها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمنيها، و إن كنت أعبدك لوجهك الكريم فلا تحرمني من رؤيته.
هذه المعاني الخاصة بأهداف الزهد والعبادة – من حيث كونهما لوجه الله إنها معان عادية عند الصوفية، وكأنها بديهية في محيطهم وفي جوهم: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
فالتصوف إذن : ليس خُلقاً فحسب، ولا زهداً فقط، ولا عبادة لا غير، وهو إن كان متضمناً للخلق الكريم، والزهد الرفيع، والعبادات المتجردة فإنه مع كل ذلك شيء آخر..
التصوف والكرامات:
يقول الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق، والذين يربطون بين التصوف من جانب ، والكرامات وخوارق العادات من جانب آخر كثيرون، ولكن التصوف ليس كرامات ولا خوارق العادات، إنه شئ يتجاوز الكرامات، ويتجاوز خوارق العادات
إن هذه الكرامات مسألة غير مهمة عند الصوفية، بل يعدونها من الأشياء اليسيرة، التي تبعث السرور في قلب من يجريها الله على يديه، ولكنه إذا فرح بها واكتفى، تدل على أنه لم يبلغ بعد في التصوف قدماً ثابتة، ولا درجات ممتازة.
ما هو التعريف الصحيح للتصوف؟
إذن ما هو التعريف الصحيح للتصوف؟ أو بالأحرى ما هو التعريف الشامل أو الذي يحتوي على معظم معاني التصوف؟
بعض التعريفات التي تتجه الوجهة الصحيحة للتصوف ، وبالمعنى الحقيقي للتصوف:
أبو سعيد الخراز ، المتوفي 268 هجرية:
سألوه عن التصوف فقال: من صفى ربه قلبه، فامتلأ قلبه نوراً، ومن دخل في عين اللذة بذكر الله
الجنيد البغدادي، المتوفي 297 هجرية:
التصوف هو أن يميتك الحق عنك، ويحييك به.
أبو بكر الكتاني، المتوفي 322 هجرية:
التصوف صفاء ومُشاهدة.
جعفر الخلدي، المتوفي 348 هجرية:
التصوف : طرح النفس في العبودية، والخروج من البشرية، والنظر إلى الحق بالكلية.
وقال الشبلي:
التصوف بدؤه معرفة الله، ونهايته توحيده.
وفي تعريف أبو بكر الكتاني، (التصوف صفاء ومشاهدة) فقد شمل جانبين يمثلان وحدة متكاملة لتعريف التصوف:
أحدهما وسيلة = صفاء
الأخرى غاية = المشاهدة
والتصوف من هذا التعريف طريق وهدف.
وطريقه يتضمن نواحي كثيرة تشير إليها تسميته نفسها، ولعل ذلك من الأسرار التي كانت السبب في هذه التسمية، واتخاذها عنواناً على هذه الطائفة.
وقال البعض إنما سُميت صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها
وقال بشر الحارث: الصوفي هو من صفا قلبه لله
وبعض التعاريف تستخدم طريقة الإشارة، مثل قول بعضهم، هم صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل ، بارتفاع هممهم إليه ، وإقبالهم بقلوبهم عليه ووقوفهم بسرائرهم بين يديه.
وقال بعضهم الصوفي (لا يَملُك ولا يُملك) ومعناها أنه يتحرر من الدنيا ، حتى ولو ملكها عريضة طويلة ، يتحرر من الجاه ، ويتحرر من الانغماس في الملذات، ومن الجري وراء المال، من حب السلطان، من حب الترف، من الصفات التي تتنافى مع الفضيلة..
ونهاية هذه الوسائل أنها تؤدي إلى الصفاء لله الذي يجعل الإنسان على استعداد كامل للمشاهدة، فيجود الله عليه بها إن شاء.
هذه المشاهدة هي أسمى درجات المعرفة ، وهي الغاية النهائية التي يسعى وراءها ذوو الشعور المرهف، والفطرة الملائكية، والشخصيات الربانية.
فالتصوف إذن معرفة – أسمى درجات المعرفة بعد النبوة – إنه مشاهدة وهو طريقة إلى المشاهدة
وعند حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين، يقول : الطريق تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ، ومهما حصل ذلك كان الله المتولي لقلب عبده، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم.
وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة ، وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغِرة بلطف الرحمة، وتلألأت به حقائق الأمور الإلهية.. فإذا ماحصل ذلك كانت المشاهدة.
قصة ذو النون والمرأة الغريبة:
ومن القصص اللطيف التي تصور الوسيلة إلى المشاهدة في سهولة ويسر ، قال ذو النون : رأيت امرأة ببعض سواحل الشام فقلت لها:
من أين أقبلت رحمك الله؟
قالت:
من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.
قلت:
وأين تريدين؟
قالت:
إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
قلت:
صفيهم لي
فقالت:
قوم همومهم بالله قد علقت
فما لهم همم تسمو إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم
يا حُسن مطلبهم للواحد الصمد
ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف
من المطاعم والملذات والولد
ولا للبس ثياب فائق أنق
ولا لروح سرور حل في بلد
إلا مسارعة في إثر منزلة
قد قارب الخطو فيها باعد الأبد
فهم رهائن غدران وأودية
وفي الشوامخ تلقاهم مع العدد
والمشاهدة التي هي الغاية( للصوفية) هي أيضاً تحقيق واقعي للتعبير، الذي ننطق به في كل آونة حيثما نقول :
أشهد ان لا إله إلا الله
فالشهادة هي غاية الصوفي، وهو إنما يسعى جاهداً إليها بشتى الوسائل ليحقق بالفعل مضمون ما يلفظ به قولاً، أو ما يقوله حروفاً..
وإلى لقاء
نسأل الله التوفيق ..الموضوع حلقتان .. بقيت حلقة ثانية وأخيرة
عبد العزيز صبره الرفاعي