دين ودنيا

كيف تتصوف يا فتى .. من التوبة عن المعاصي ..وصولاً لمقام الرضا -2

التوبة

أ، ب، ألف باء تصوف.. كيف تتصوف يا فتي؟ تعالى سوياً بسهولة وبساطة (نستهجى) ونتعلم التصوف واحدة واحدة .. خطوة خطوة بدون تعقيد أو خوف من الوقوع في أمور مثل الجذب أو الدروشة التي قد يخجل منها البعض .. الحلقة الثانية :
قرأنا سويا في الحلقة الأولى، معنى صوفي وصوفية وتعريف التصوف، وبينا أولى خطوات الطريق بالوصول إلى تعريف التصوف أنه صفاء ومشاهدة..والآن في الحلقة الثانية نبدأ الجد لنصل أولى الدرجات ..والمقامات

المقامات والأحوال:


إن الصوفية لهم طريق روحي، يسيرون فيه، أساسه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهذا الطريق يعتمد أساساً ومنهجاً وغايةً، على القرآن والسنة..وهذا الطرق جربه الصوفية ، فثبتت ثماره وجوهره هو: المقامات والأحوال :


والمقامات هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله، فيقف فيها فترة من الزمن مجاهداً (نفسه) في إطارها ، حتى يهيئ الله سبحانه وتعالى له سلوك الطريق إلى المنزل أو المقام الثاني

اقرا:كيف تتصوف يا فتى .. من التوبة عن المعاصي ..وصولاً لمقام الرضا –

أحوال الصوفية:


أما الأحوال فإنها النسمات الروحية التي تهُب على السالك، فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة، ثم تمر تاركة عطراً، تتشوق الروح للعودة إلى تنسم أريجه، وذلك مثل الأنس بالله.
وسواء أكنا بصدد المقامات أم بصدد الأحوال، فإن الصوفية قد اختلفوا فيها بين مجمل لها ومفصِّل.
ولكن الملاحظ أنهم – في وصف المقامات والأحوال – لا يتعارضون.
واختلافهم إذن ليس اختلاف تناقض وتعارض ، وإنما اختلاف بسط وإيجاز.
ويقول الإمام أبو نصر السراج الطوسي عن المقامات: والمقامات مثل التوبة ، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، الرضى، والتوكل ، وغير ذلك.
ويقول عن الأحوال: وأما معنى الأحوال : فهو ما يحل بالقلوب، أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار
وقد حكي عن الجنيد رحمه الله، أنه قال: الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم .


ويقول الطوسي أيضاً: وليس الحال عن طريق المجاهدات والعبادات، والرياضات – كالمقامات التي ذكرناها. وهي – أي الحال – مثل: المراقبة، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، واليقين، وغير ذلك.

ما هو المقام عند الصوفية؟


ويقول الإمام القشيري عن المقامات:
المقام: ما يتحقق به العبد بمنازلته – أي بنزوله فيه، وبما اكتسب له – من الآداب مما يتوصل إليه بنوع تصرف ، ويتحقق به بضُرب تطلب ..


فمقام كل واحد : موضع إقامته عند ذلك ، وما هو مشتغل بالرياضة له

الأحوال عند الصوفية:


ويقول الإمام القشيري عن الأحوال:
والحال عند القوم (الصوفية) : معنى يرد على القلب، من غير تعمد منهم ولا اجتلاب (استدعاء) ، وأمثلة الأحوال: طرب، حزن، بسط، قبض، شوق، انزعاج، هيبة، احتياج
فالأحوال: مواهب، والمقامات :مكاسب .
والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود..
وصاحب المقام ممكن في مقامه، وصاحب المقام مترق عن حاله

المقياس والميزان الصوفي حب الله ورسوله:


وهذا الطريق – التصوف – يستند إلى مقياس يزن به نفسه وهو : الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولا يكون ذلك إلا عن طريق أن يملأ حب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم جميع أقطار النفس ففي حب الرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول الله سبحانه وتعالى:


( قل إن كان آباؤكم، وأبناؤكم، وإخوانكم، وأزواجكم، وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله فتربصوا، حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين) التوبة -24
وفي معنى الآية الكريمة يروي الإمام البخاري رضي الله عنه، عن عبدالله بن هشام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسو ل الله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه
فقال عمر : فأنت الآن أحب إلي من نفسي
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
الآن يا عمر
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الآن يا عمر ، أي الآن وقد صار رسول الله أحب إليك من نفسك ، فقد استقامت أمور الإيمان عندك ، وصرت إلى ما أحب الله ورسوله.
ومحبة رسول الله تضمن شرط أساسي جوهري هو اتخاذه قدوة في السلوك والعمل والدرجة الجوهرية في القدوة به صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، هي متابعته في إسلام وجهه لله سبحانه وتعالى.

عقد الإيمان:


لقد باع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، نفسه وماله لله سبحانه، وكان أول البائعين وكان أمثل البائعين، وحقق بذلك وحقق أصحابه ومن اتبع هديه متأسين به ويقول الله تعالى :
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله ، فيقتلون، ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ) التوبة 111
لقد اشترى الله في عقد الإيمان النفس والمال ، بثمن هو الجنة، فإذا بخل المؤمن بنفسه في سبيل الله فقد أخل بعقد الإيمان، وإذا بخل بماله في سبيل الله فقد أخل بعقد الإيمان .
فحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذن هو إيثار ما يحب ، واتباع هديه والعمل بسنته في الإيجاب ، وإيثار كل ذلك على الآباء والأبناء وغيرهم ، مما يحبه الإنسان من أشخاص أو من أشياء.
وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، فيما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه :
والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من والده وولده والناس أجمعين .
فحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، مرجعه إلى صفات كريمة سامية عُليا ، تمثلت فيه طيلة حياته

مصلحة الآخرة .. ومصلحة الدنيا:


الآية الكريمة التي رويناها ، والأحاديث الشريفة التي رويناها، تدل كلها دلالة صريحة على أنه إذا تعارضت أمور الدين مع المصلحة الشخصية أو مع أمور الدنيا، فإنه يجب على المؤمن أن يؤثر أمور الدين على غيرها.
يقول الإمام الرازي :
إذا وقع تعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين ، وبين جميع مهمات الدنيا، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا

أشد آية :


يقول صاحب الكشاف عن الآية الكريمة :
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله ، فيقتلون، ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ) التوبة 111
ما معناه: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها ، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين ، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله ، والثبات على دين الله ما يجعله يؤثر دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويجرد منها لأجله؟..أم أن الشيطان يغويه من أجل حظ من حظوظ الدنيا . فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟

الحب الصادق هو النجاة في الدنيا والآخرة:
فإن الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يتمثل في حقيقة المحاولة الصادقة، لالتزام صفاته في النفس، والعمل على سيادتها في المجتمع.
والحب الصادق يلزمه لا محالة التأسي برسول الله، يقول سبحانه وتعالى:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراَ) الأحزاب – 21
إن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، خير ما يحقق النجاة في الدنيا والآخرة ، فرسول الله عليه الصلاة والسلام، هو المثل الكامل الواقعي، التطبيقي ، للدين الإسلامي.
إنه الصورة الحية للقرآن الكريم، وفي ميسور كل إنسان الاقتداء به.

علامات الحب ثلاث:
فعلامة الحب التأسي بالمحبوب وعلامات التأسي والحب ثلاثة في الآية السابقة وهي :
1 – أن يرجو الله
ورجاء الله سبحانه وتعالى يبينه بقوله ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف – 110 – فتحقق الرجاء في الله أن يخلص الإنسان وجهه لله في العبادة ، وأن يكون من ذوي الأعمال الصالحة ، وإلا كان رجاؤه في الله شكلاً، لا حقيقة له ، وظاهراً، لا جوهر له.
أما الذين لا يرجون الله فيصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار ، بما كانوا يكسبون) يونس 7 – 8 وهؤلاء لا نصيب لهم في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يتوافر فيهم شرط رجاء الله سبحانه
2 – أن يرجو اليوم الآخر
ورجاء اليوم الآخر هو رجاء النجاة فيه بالعمل للنجاة ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء 88 – 89

3- ذكر الله كثيراً
أن يذكر الله كثيراً ، هو الشرط الثالث والعلامة الثالثة على أن الإنسان يحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقتدي به ، وقد حدد الله سبحانه وتعالى الذكر بالكثرة ، فذكر الله كثيراً علامة على التدين الحقيقي، وهو من سمات أصحاب العقول الراجحة، ومن سماتهم التدبر والتفكر والذكر في جميع حالاتهم للعظة والاعتبار، ومن صفاتهم الذكر في جميع حالاتهم التي هم عليها ، وذلك كله على أساس من الإيمان الخالص
يقول الله سبحانه وتعالى في أسلوب رائع، وفي معان تتسلسل نوراً وتتلألأ ضياء:
(إن في خلق السموات والأرض،
واختلاف الليل والنهارلآيات لأولي الألباب
الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم
ويتفكرون في خلق السموات والأرض
ربنا ما خلقت هذا باطلا ، سبحانك، فقنا عذاب النار.
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته
وما للظالمين من أنصار.
ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان
أن آمنوا بربكم فآمنا
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك
ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) آل عمران 190 –
194
ويعقب الله على ذلك بقوله
(فاستجاب لهم ربهم )
وهنا وإذا توفرت في الإنسان هذه الشروط، فقد أصبح جديراً بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأصبح بذلك من الذين يحبونه ، والمرء مع من أحب

1- مقام التوبة :
معذرة، عزيزي القارئ إن كنت أطلت عليك في الحلقة السابقة وهذه الحلقة ..ولكن كل هذا كان تمهيداً مختصراً ، كي ندخل الآن أول مقامات القوم ، فأنت الآن في مقام التوبة أولى الدرجات في المقامات كي ما تدرج مرتقياً إلى ملكوت رب العالمين
يقول فضيلة الإمام الدكتور- عبدالحليم محمود في كتابه (قضية التصوف – المنقذ من الضلال) : وإذا أراد الإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فيحاول أن يقترب ما استطاع من:
(.. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له ..) – الأنعام 162 -163..فإذا أراد الإنسان أن يدخل في معنى الإسلام كيف يبدأ؟

ما هي الخطوة الأولى؟
ما الطريق ؟ ثم إلى أين ؟
ما هي الثمرة المرجوة، وما النفع الذي يعود عليه من ذلك؟
إنه يبدأ الدخول في النظام القرآني..هذا معناه : العزم المصمم على التخلي عما ليس بقرآني: وهذا ما يُسمى في العرف الإسلامي أو في النظام القرآني (التوبة)
ولقد أمر الله في القرآن بالتوبة ، وحث عليها ، وحبب فيها، بل وأوجبها ..
والواقع إنها اللبنة الأولى إلى الله ، وهي اللبنة الأولى في طريق إسلام الوجه لله، يقول أبو يعقوب يوسف بن حمدان السوسي، رحمه الله :
أول مقام من مقامات المنقطعين إلى الله تعالى: التوبة..والتوبة هي الرجوع عن كل شئ ذمه العلم ، إلى ما مدحه العلم.
ولقد فتح الله باب التوبة على مصراعيه ، تفضلا منه ورحمة ، يقول سبحانه في حديث قدسي، وفي أسلوب كله رأفة : يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم :كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

توبة العوام .. وتوبة الخواص :
وما من شك في أن:
توبة العوام كما يقول ذا النون المصري، رضى الله عنه، هي من الذنوب، وأما توبة الخواص فإنها من الغفلة ، وتصل التوبة في سموها فتكون مما سوى الله تعالى..
ورسول الله -عليه الصلاة والسلام- يخبر أن الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده المؤمن ، ويعرفنا رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أن ربنا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا عند ثلث الليل الأخير فينادي:
ألا هل من مستغفر فأغفر له ، ألا هل من تائب فأتوب عليه
ويقول سبحانه وتعالى في صورة من تجلي الرحمة وسعة وشمول الرأفة بالعباد:
(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم)
ويلي هذه الآية الكريمة ما يبين الطريق إلى المغفرة والرحمة ، يقول سبحانه وتعالى :
( وأنيبوا إلى ربكم ، وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون)
أي ارجعوا إلى الله بالتوبة وإسلام الوجه له .
ثم بين لهم الطريق الصحيح الذي يلي التوبة إذا صدقت بقوله تعالى:
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ، من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون)
والله سبحانه وتعالى في هذا يوجه الذين صدقوا في التوبة أن يتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم.
فإذا صدقت التوبة فسيتبعها أن يستقيم الإنسان على الطريق.
والله سبحانه وتعالى يسد على الذين يبين لهم الطريق، باب المعاذير فيما بعد ، مهدداً تهديداً يقصد به حث الإنسان على أن يسارع بالتوبة الصادقة، فهو تهديد من رحمن رحيم.
يقول سبحانه وتعالى:
( أن تقول نفس : يا حسرتاً على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أو تقول: لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب : لو أن لي كرة فأكون من المحسنين)
فإذا ما قال الإنسان ذلك أو تعلل بأمثاله ، فإن الرد يأتيه من رب العزة:
( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها، واستكبرت، وكنت من الكافرين)
ثم يبين الله سبحانه وتعالى حال الكافر والمؤمن يوم القيامة:
( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، أليس في جهنم مثوى للمتكبرين. وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ، لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون )
إذن بداية الطريق :
والآن قد وضح الطريق .. فهو :
أولاً : التوبة
ثانياً : اتباع أحسن ما أنزل الله
وقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يبدءون أعمالهم الهامة بالتوبة الخالصة النصوح، لقد كانوا يبدءون شهر رمضان بالتوبة ، ويبدءون الحج بالتوبة.
والرحلة المباركة رحلة الإسراء والمعراج بدأت بشق الصدر الشريف ، وشق الصدر بالنسبة لنا ، إنما هو التوبة الخالصة النصوح ، لأن التوبة تطهر وطهر..وإذا تاب الإنسان فإن ذلك يكون بمثابة إتيان ملكين يشقان عن صدر الإنسان، ويغسلانه بالثلج والبرد، أو بماء زمزم ، أي: يطهرانه .
إن التوبة تطهر الإنسان من المعصية ، إنها تجُبُّ ما قبلها أي تزيله وتمحوه.

شروط التوبة:
يقول الإمام النووي في رياض الصالحين، قال العلماء : التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط :
1- أن يقلع عن المعصية
2- أن يندم على فعلها
3- أن يعزم ألا يعود إليها أبداً.. فإن فقد إحدى الثلاثة فلن تصح توبته وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي، فشروطها أربعة ..هذه الثلاثة
4- وأن يبرأ من حق صاحبها .. فإن كانت مالاً أو نحوه فيرده إليه ..وإن كانت حد قذف و نحوه، مكنه من نفسه ، أو طلب عفوه وإن كانت غيبة استحله منها ..ويجب أن يتوب من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب ، وبقى عليه الباقي.. وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة ..هذا فيما يتعلق بالتوب
ة

اتباع أحسن ما أنزل الله:
واتباع أحسن ما أنزل الله يبدأ بما كان يبدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، مع الداخلين في الإسلام ، أعني مواد البيعة
ومن المبايعات التي بايع عليها رسول الله أصحابه ما كا ن قبل فتح مكة، بل قبل الهجرة إلى المدينة، كما في بيعة العقبة ، فيها قال رسول الله لمن حضر من الأنصار:
(بايعوني على السمع والطاعة ، في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم ، مما تمنعون منه أنفسكم ، وأزواجكم، وأبناءكم، ولكم الجنة..)

ومن هذه المبايعات ما كانت بعد هذه البيعة.
روى البخاري بسنده عن عبادة بن الصامت أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال – وحوله جماعة من أصحابه رضوان الله عليهم –
بايعوني على ألا تشركوا بالله ، و لا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه . فبايعناه على ذلك
وقد تحدث القرآن الكريم عن بيعة النساء يقول تعالي:
( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً ، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يعصينك في معروف، فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم )
وكانت هذه البيعة عقب فتح مكة بعد بيعة الرجال .
وروى عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم.

2- مقام الورع :
إذا صدقت التوبة فإنها توصل للمقام الذي يليها وهو الورع ..
والورع هو أن يترك الإنسان كل ما فيه شبهة .. ففي مقام التوبة السابقة قد تركنا كل ما هو حرام وذلك أن التوبة الصادقة هي التوبة عن الحرام .. كل ما هو حرام
وتوجيه الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم متناسقاً في ذلك مع القرآن- مستفيض فيما يتعلق بالورع، أخرج الشيخان عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى ، يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلُحت صلُح الجسدُ كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب.
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال:
حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
قال النووي معناه : اترك ما تشك فيه ، وخذ مالا تشك فيه
وعن عطية بن عروة السعدي، الصحابي رضى الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لايبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به ، حذراً مما به بأس .

الورع ثلاث :
والورع يكون في الحديث والقلب والعمل
ورع الحديث:
فإنه التورع عن اللغو بجميع ضروبه، إنه ترك كلمات الفضول، وترك كل حديث ليس من شأنه إلا قطع الوقت دون فائدة أو ثمرة
والورع في الحديث ليس سهلاً، ويقول فيه الإمام القشيري:
الورع في (الكلام) أشد منه في الذهب والفضة.
ولا تدخل الغيبة والنميمة في الورع في الكلام ، وذلك أننا في مستوى لا ينزل إلى الذنوب والآثام (الغيبة والنميمة حرام مما يتركه الإنسان في التوبة)

ورع القلب:
والورع في القلب هو عدم انشغال القلب بالتوافه والخطرات ويتسامى الورع في القلب حتى يصل إلى ما يقوله الإمام الشبلي وهو من كبار أئمة التصوف:
الورع أن تتورع عن كل ما سوى الله

الورع في الأفعال:
الورع في الأفعال يتضمن التحري فيما يتعلق بالمأكل والمشرب والملبس ، حتى يكون كل ذلك من حلال طيب
ولقد كان أسلافنا يتحرون في ذلك ما استطاعوا، وذلك أن النور في القلب والصفاء في العبادة ، والتيسير فيما يأتي الإنسان وفيما يدع ، كل ذلك له علاقة قوية بطيب المطعم، والمشرب ، والملبس.
عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً )
فقام سعد ابن أبي وقاص فقال : يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة.
فقال: يا سعد أطب مطعمك ، تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ، ما يُتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا ، فالنار أولى به .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به الرسل فقال :
(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ، واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم )
وقال:
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم )

يقول أبو علي الدقاق: كان الحارث المحاسبي إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة ، ضرب على رأس إصبعه عرق فيعلم أنه غير حلال.
وقال إن بشراً الحافي، دُعِي إلى دعوة ، فوضع بين يديه طعام ، فجهد أن يمد يده إليه ، فلم تمتد، ففعل ذلك ثلاث مرات ، فقال رجل يعرف ذلك منه:
إن يده لا تمتد إلى طعام فيه شبهة ، ما كان أغنى صاحب هذه الدعوة أن يدعو هذا الشيخ ؟!
يقول القشيري:
أما الورع فإنه: ترك الشبهات
يقول إبراهيم بن أدهم:
الورع ترك كل شبهة وترك مالا يعنيك
وقال أبو سليمان الدراني:
الورع أول الزهد ، كما أن القناعة طرف من الرضا
ويقول يحيى بن معاذ:
الورع على وجهين :
ورع في الظاهر ، وهو : ألا يتحرك إلا لله تعالى.
وورع في الباطن، وهو ألا يدخل قلبك سوى الله تعالى.
ودخل الحسن البصري مكة فرأى (رجل في سن الصبا) من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس ، فوثب عليه -الحسن- وقال له :
ما ملاك الدين ؟ فقال: الورع
فقال له :
فما آفة الدين؟ فقال: الطمع
فتعجب الحسن منه

3- مقام الزهد
يقول الإمام أبو نصر سراج الطوسي:
والورع يقتضي الزهد
ويقول : والزهد مقام شريف : وهو أساس الأحوال الرضية والمراتب السنية ، وهو أول قدم القاصدين إلى الله عز وجل، والمنقطعين إلى الله ، والراضين عن الله ، والمتوكلين على الله تعالى، فمن لم يحكم أساسه في الزهد لم يصح له شئ مما بعده ، لأن حب الدنيا أساس كل خطيئة، والزهد رأس كل خير وطاعة.
وجوهر الزهد يدور حول سؤال: امتلاك المال، والثراء العريض: أهو مقبول؟ أهو مكروه؟ ما هو موقف الدين من ذلك؟
وإذا كان الثراء العريض لا يتفق مع الدين ، فكيف ملك بعض كبار الصالحين الثروات الكبيرة؟
كيف ملك الأنبياء عليهم السلام ، الأموال والضياع ، مثل داود وسليمان وإبراهيم وأيوب ونظائرهم ويوسف – عليهم السلام أجمعين – على خزائن الأرض، وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، والصالحين من بعده؟
..( ونورد نص من النصوص النفيسة في هذا الموضوع ، وهو نص قد وفق الله سبحانه وتعالى أبا سعيد الخراز لكتابته في صورة دقيقة محكمة ) يقول أبو سعيد الخراز في كتاب الصدق:
اعلم أن الأنبياء عليهم السلام ، والعلماء، والصالحين من بعدهم ، رضي الله عنهم : أمناء الله تعالى ، في أرضه على سره، وعلى أمره ، ونهيه وعلمه ، وموضع وديعته، والنصحاء له في خلقه وبريته ، وهم الذين عقلوا عن الله سبحانه وتعالى أمره ونهيه، وفهموا لماذا خلقهم، وما أراد منهم وإلام ندبهم؟
فوافقوه في محبته، ونزلوا في الأمور عند مشيئته، ثم وقفوا عند ذلك مواقف العبيد الألباء ، القابلين عن الله، والحافظين لوصيته ، وأصغوا إليه بآذان فهومهم الواعية، وقلوبهم الطاهرة ، ولم يتخلفوا عن ندبته ، فسمعوا الله – عز وجل- يقول:
(آمنوا بالله ورسوله ، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)
ثم قال:
(ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)
وقال تعالى:
(لله ما في السموات وما في الأرض)
وقال تعالى:
(ألا له الخلق والأمر)
فأيقن القوم : أنهم لله تعالى ، وكذلك ما منحهم ، وملكهم ، إنما هو له، غير أنهم في دار اختبار وبلوى ، وأنهم خُلِقوا للاختبار والبلوى في هذه الدار.
وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين سمع:
( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً )
قال:
يا ليتها تمت! – يعني عمر قبل قراءة
(إنا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه )
ومعنى قول عمر رضي الله عنه : ياليتها تمت، يعني: لم يخلق حين سمع (لم يكن شيئا مذكورا)
وذلك من معرفة عمر- رضي الله عنه- بواجب حق الله، وقدر أمره ونهيه، وعجز العباد عن القيام به ، وقيام الحجة لله تعالى عليهم عند تقصيرهم وما توعدهم به إذا ضيعوا .


ويروى عن الحسن رضى الله عنه أنه قال:
إن الله تعالى أهبط آدم عليه السلام ، إلى الدنيا عقوبة، وجعلها سجناً له حين أخرجه من جواره، وصيره إلى دار التعب والاختبار.


فمن ملك – من أهل الحقيقة – شيئاً من الدنيا فهو معتقد أن الشئ لله عزوجل ، لا إله إلا هو، وهوأن الإنسان مُبتلى بهذا الشئ ، لأن النعمة بلاء ، حتى يقوم العبد بالشكر فيها ، ويستعين بها على طاعة الله تعالى:
وكذلك البلوى والضراء ، هو اختبار وبلاء ، حتى يصبر عليه ، ويقوم بحق الله تعالى فيه!
وكذلك قال بعض الحكماء : العلم كله بلاء حتى يعمل به
قال عز وجل:
(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم)
وقال:
(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلو أخباركم)

سليمان في ملكه يأكل الشعير:


..وروى عن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام في ملكه وما أباحه الله تعالى من الكرامة ، حين يقول تعالى:
(هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)
قال أهل التفسير: لا حساب عليك في الآخرة، وإنما كان عطاءاً هيناً إكراماً من الله – عز وجل – له.


فذكر العلماء أن سليمان عليه السلام كان يُطعم الضيوف الحوارى ، وهو لباب البر وخالص الدقيق النقي، ويطعم عياله الخشكار وهو الدقيق الخشن..وكان هو يأكل الشعير.

يوسف على خزائن الأرض ولا يشبع

لماذا وضعت الريح سليمان؟


ولقد روى أن سليمان عليه السلام ، بينما هو ذات يوم والريح تحمله، والطير تظله ، والجن والإنس معه، وعليه قميص جديد ، فلصق ببدنه ، فوجد اللذة ، فسكنت الريح ، ووضعته على الأرض.
فقال لها : مالك؟
قالت: إنما أمرنا أن نطيعك ما أطعت الله.
ففكر في نفسه: من أين أُتى ؟ فذكر، فراجع، فحملته الريح.


ولقد روي أن الريح كانت تضعه في اليوم مرات، من هذا وأشباهه

سيدنا محمد يترك الدنيا حباً لله:


وهذا النبي – سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : بينما جبريل – عليه السلام – عنده ، إذ تغير جبريل، إذا ملك قد نزل من السماء، لم ينزل قط، فقال جبريل عليه السلام: خشيت أنه نزل في أمر، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالسلام من عند الله عز وجل، وقال له:
هذه مفاتيح خزائن الأرض تسير معك ذهباً وفضة، مع البقاء فيها إلى يوم القيامة، ولا ننقصك مما لك عند الله شيئاً !


فلم يختر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك،وقال:
أجوع مرة وأشبع مرة


ولذلك أدبه الله تعالى :
(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم، زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه)


وهذا سيدنا أبو بكر الصديق جاء بكل ماله ، لأنه كان أقوى القوم فقال له النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ما خلفت لعيالك؟


قال: الله ورسوله، ولي عند الله مزيد
وجاء الفاروق عمر بن الخطاب، بنصف ماله ، فقال النبي ما خلفت لعيالك؟


قال: نصف مالي ، ولله عندي مزيد!
ثم عثمان رضي الله عنه يجهز جيش العسرة كله ..
فقد كان القوم خارجين مما ملكوا وهو في أيديهم ، يعدونه لله عز وجل.


وكان عمر حين جاءته الدنيا راغمة من حِلِها، وكان طعامه الخبز والزيت، وفي ثوبه بضع عشرة رقعة
وكان عثمان رضي الله عنه كأنه واحد من عبيده في ملبسه

4- مقام التوكل:
الإسلام أن يسلم قلبك لله. إنه التوحيد.
وهو (إياك نعبد وإياك نستعين)
وهو : إسلام الوجه لله.
وذلك يقتضي التوكل على الله، كجزء لا يتجزأ عن الإسلام.


ويتلون التوكل بحسب درجاته ، ويأخذ اسماً تبعاً لدرجته، فيكون : توكلا ، و يكون: تسليماً ، ويكون : تفويضاً

التوكل على الله في غزوة أحد:
..ويقول الله عن المؤمنين في غزوة أحد:
(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، فأخشوهم،فزادهم إيماناً ، وقالوا حسبنا الله، ونعم الوكيل)

فكانت النتيجة :


(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم)
من هم هؤلاء؟ إنهم:
(الذين استجابوا لله والرسول، من بعد ما أصابهم القرح)
ما هي قصتهم؟
إن مشركي مكة لما أصابوا من المسلمين يوم أُحد ، واتجهوا للعودة إلى مكة ندموا على أنهم لم يقضوا على المسلمين تماماً، ويجعلوها الفيصلة ؟
وكان من كلامهم :
لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم ،ارجعوا .
وأرادوا العودة على المدينة.
ولكن، أبا سفيان لم ينس يوم بدر، ولم ينس أن الفئة القليلة يوم بدرغلبت الفئة الكثييرة .. وكانوا ثلاث أضعاف ، فأحب أولاً أن يعجم عود المسلمين(يختبرهم) ، وكان من المصادفات ، أن مر به ركب من عبدالقيس، فقال : أين تريدون ؟.. قالوا: نريد المدية.
قال : فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم مقابل ذلك زبيباً بعكاظ، إذا وافيتمونا؟ ..قالوا: نعم.
قال: إذا وافيتم محمداً فأخبروه أنا قد جمعنا المسير إليه. وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.


ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فكان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأصحابه ما صوره الله سبحانه وتعالى:
(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، فأخشوهم، فزادهم إيماناً ، وقالوا حسبنا الله، ونعم الوكيل)


(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم)


قالوا ذلك واستعدوا مباشرة للقتال من جديد: من كان مجروحاً ضمد جرحه، ومن كان قد كلَّ سيفه أحدَّه، ومن كان أمره متفرقاً في نفسه أو في ماله ، أصبح أمره جميعاً ..واستعدوا لخوض المعركة، بكل ما يملكون من وسائل.. وكان أبو سفيان ينتظر نتيجة الرسالة، وما تحدثه من صدى..ورجع واحد من وفد عبد القيس يقول لأبي سفيان : لقد رأيتهم كالأُسُد الموتورة ، عازمة على الأخذ بالثأر.
ولما سمع أبو سفيان رجع إلى مكة حرصا على السلامة .

التوكل والأخذ بالأسباب:


والمتوكلون يأخذون بالأسباب، ويستعدون كأكمل ما يكون الاستعداد، وأدق ما يكون الاستعداد


أخذ سيدنا هود عليه السلام يعمل على نشر الحق الموحي إليه، والذي يتلخص فيما قال عليه السلام:
(ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )


وأخذ الصراع بين هود وقومه يشتد ، ويعنف ، حتى إذا استصفى هود جميع عناصر الخير منهم ، واستخلص منتهى ما يمكن استخلاصه من أشخاص آمنوا به ، ولم يبق إلا من لا خير فيه: جاءهم عذاب الله دون أن يصيب هوداً والذين آمنوا معه، يقول تعالى:
(ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ، ونجيناهم من عذاب غليظ)


فقد أخذ هود بالأسباب وظل يكافح ويجاهد ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى بكل وسيلة شريفة يستطيعها ..

ويقول الإمام الغزالي:


وقد يظن أن معنى التوكل ترك الاكتساب بالبدن ، وترك التدبير بالقلب ، والسقوط على الأرض، كالخرقة الملقاة، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع.


إن المعنى الحقيقي للتوكل: هو أن يعتقد الإنسان اعتقاداً جازماً أن الأسباب الظاهرة، لا تلغي إرادة الله، وأن إرادة الله متحكمة على تلك الأسباب في أسسها وبواعثها ، وهي مشرفة على الأسباب في غاياتها ، ونهاياتها ، وعلى الإنسان أن يعمل ، كما أمر الشرع وعليه أن يكل أمر النتيجة إلى الله سبحانه وتعالى ..

سيدنا محمد إمام المتوكلين:


و رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إمام المتوكلين، و إمام المجاهدين المكافحين، الآخذين بالأسباب ، وسيدنا أبو بكر رضى الله عنه حينما بويع بالخلافة أصبح ذاهباً إلى السوق يتَّجر – يمارس التجارة التي كان يتكسب منها رزقه – كعادته فتكاثر عليه المسلمون قائلين: كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة؟ فقال لهم:
لا تشغلوني عن عيالي فإني إن أضعتهم كنت لمن سواهم أضيع.


حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين .
لقد كان كبار الصحابة رضي الله عنهم يعملون ، ويكتسبون ، وكانوا بذلك من كبار المتوكلين .

التوكل محله القلب:


يقول الإمام القشيري : واعلم أن التوكل محله القلب ، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى، فإن تعسر شئ فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره.
التقدير من قبل الله تعالى:
إذا آمن الإنسان بذلك – ولابد أن يؤمن – فهو متوكل ..
والمتوكل يتخذ الأسباب، اقتداءاً برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

توكل التسليم النبوي المحمدي:


والآن نسير مع السيرة النبوية المشرفة بعد غزوة أحد حتى نصل غزوة الأحزاب ، لنصل إلى التوكل في درجة التسليم ، ما يحدثنا عنه القرآن الكريم :
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ماوعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً )
لقد زادتهم رؤية الأحزاب – الجيوش الجرارة التي أتت لتهدم المدينة، وتقتل من فيها – إيماناً وتسليماً
ماذا فعلوا؟
لقد سهروا ليلاً، وأقاموا نهاراً من وراء الخندق ، يرقبون حركات العدو، ويستعدون لكل شأن من شئونه.
لقد لبسوا دروعهم، وتسلحوا بسيوفهم، وأقواسهم، وسهامهم.


لقد احكموا كل أمر من أمورالحرب ، بحسب طاقتهم، ولكن الأمر فيما يسلمون به لله كله:
(إليه يرجع الأمر كله)
(وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً)
إيماناً قلبياً وتسليماً قلبياً
ومن الملاحظ لقارىء القرآن الكريم أن آية الأحزاب هذه سبقها مباشرة قول الله سبحانه وتعالى:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً)
ولقد تابع المؤمنون الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – في توكله، واتبعوه مسلمين في استعداده وتأهبه، لقد اتخذوه قدوة.


يقول الإمام سهل بن عبدالله -من أئمة التصوف- هذه الكلمات الجميلة حقاً الصادقة حقاً:
التوكل على الله حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والكسب سنته فمن بقى على حاله فلا يتركن سنته .
ويقول :
من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان.


وقال ( الإمام سهل بن عبدالله) : التوكل الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد.


في كل ما أراد الله سبحانه وتعالى :
في الجهاد، في السعي على الرزق، في التزود من العلم، في حُسن الخلق.


إنه الاسترسال مع الله في كل ما يريد، وهذا يستوجب أن يسكن الإنسان إلى النتائج بعد أن يكون قد اتخذ الأسباب، بقدر طاقته ، ويستوجب أمراً آخر، هو الابتعاد عن كل ما لا يريد الله .

التوكل الاعتصام بالله:


قال حمدون القصار- من كبار الصوفية – أن التوكل هو الاعتصام بالله تعالى ، وهو يتفق مع التعريف السابق للإمام سهل بن عبدالله ، فيرى القصارأن التوكل هو الاعتصام بالله تعالى في اتباع أوامره، وهو الاعتصام بالله تعالى في اجتناب نواهيه، وهو الاعتصام بالله تعالى في كل حركة، وهو الاعتصام بالله تعالى في النتائج

توكل التفويض:


هو ثالث درجة أو رتبة من درجات التوكل الثلاث، وهي التوكل ، التسليم، التفويض، ففي قصة رجل مؤمن صادق الإيمان وقف ناصحاً في وجه الطغيان والجبروت، يدعو إلى الله، ويبشر بالتعاليم الصادقة ، وينذر، ويهدد بعقاب ، في أسلوب قوي ، لا يخشى فيه لومة لائم
مؤمن آل فرعون ، بعد أن نصح وبشر وأنذر، قال:
فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمر ي إلى الله ، إن الله بصير بالعباد)


وكانت النتيجة:
(فوقاه الله سيئات ما مكروا ، وحاق بآل فرعون سوء العذاب )
ويحسن أن نذكر القصة بتمامها من كتاب الله من سورة غافر ، يقول سبحانه وتعالى :
( وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع ،
وإن الآخرة هي دار القرار. من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ،
ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب .


ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار .
تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.


لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا، ولا في الآخرة، وأن مردنا إلى الله
وأن المسرفين هم أصحاب النار
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد .


فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب )


ومن كل ما تقدم ننتهي كما بدأنا في الحديث عن التوكل، أن التوكل جزء لا يتجزأ من الإيمان، والصورة المُثلى فيه ، هي صورة رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إمام المتوكلين ، إمام المناضلين، ومن بعده صورة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، والصحابة الأجلاء الذين كانوا متوكلين، وكانوا مناضلين، في الحرب وفي التجارة ، وفي الزراعة…
وبعد، فيقول سبحانه وتعالى:
( إن الله يحب المتوكلين )

5- مقام المحبة :


يقول الله تعالى في حديث قدسي:
من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن أستعاذ بي لأعيذنه.


في هذا الحديث القدسي الشريف يبدأ الله سبحانه وتعالى بالتوجيه في قوة إلى صفاء القلب وطهارة النية بالنسبة لأوليائه، وأولياؤه هم :
(الذين آمنوا وكانوا يتقون)
ومن عاداهم فإنما يُعادي المؤمن التقي.
ونتيجة هذه العداوة ما يقوله سبحانه وتعالى:
آذنته بالحرب.

الطريق إلى حب الله:


وأول خطوة في هذا الطريق : أداء فرائض الله، وهذا أول شرط فلن يتأتى حب الله بدونه، فالحب دون أداء الفرائض زيف وكذب.


بل إن أداء الفرائض شرط لحسن الظن بالله: لقد ترك قوم العمل وقالوا : نحن نُحسن الظن بالله ، وكذبوا – كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.


ثم تأتي الخطوة التالية، هي الإكثار من النوافل ، فإذا أكثر من النوافل ، أحبه الله سبحانه وتعالى.
ونتيجة هذا الحب الخير الكثير، الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي.


ولا يمكن حب الله بدون اتباع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:
( قل: إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله)
ومقدمات محبة الله تعالى هي العمل ، ونتيجة المحبة هي العمل :
يقول الإمام أبو سعيد الخراز : وبلغنا عن الحسن البصري :
أن ناساً قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله إنا نحب ربنا حباً شديداً ، فجعل الله لمحبته علماً ، وأنزل عز وجل:
( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)


فمن صدق المحبة اتباع الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في هديه، وزهده، وأخلاقه، والتأسي به كل الأمور، والإعراض عن الدنيا وزهرتها وبهجتها ..فإن الله عز وجل، جعل النبي محمداً، صلوات ربي وسلامه عليه ، علماً ودليلاً وحجة على أمته


ويقول الإمام الغزالي: وقد جعل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الحب لله شرط من الإيمان في أخبار كثيرة، إذ قال أبو رزين العقيلي: يارسول الله ! ما الإيمان ؟ قال:
أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما


( قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ)


ومن أجمل تعبيرات المحبين عن شعورهم ما يقوله

يحيى بن معاذ :
إلهي إني مقيم بفنائك، مشغول بثنائك ، صغيراً أخذتني إليك، وسربلتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك ، ونقلتني في الأحوال، وقلبتني في الأعمال: ستراً وتوبة، وزهداً ، وشوقاً ، ورضاً ، وحباً.. تسقيني من حياضك، وتهملني في رياضك. ملازماَ لأمرك، ومشغوفاً بقولك، ولما طَرّ شاربي، ولاح طائري، فكيف انصرف اليوم عنك كبيراً ؟ وقد اعتدت هذا منك صغيراً فلي ما بقيت حولك دندنة ، وبالضراعة إليك همهمة ، لأني محب ، وكل محب بحبيبه مشغوف ، وعن غير حبيبه مصروف …!


وبعد:
فإن ثمرة محبة الله تعالى هي ما قاله سبحانه عن أوليائه:


( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم)

6- مقام الرضا:


لا يأتي بعد المحبة إلا الرضا ، وذلك أن المحب دائماً راض عن أعمال محبوبة، وللرضا في الإيمان ركائز قوية، وذلك أن المؤمن من يعتقد أن الله سبحانه وتعالى حكيم وتصرفاته – سبحانه- تجري على مقتضى الحكمة. ويعتقد المؤمن أنه سبحانه وتعالى رحمن , وتصرفاته – سبحانه تجري على مقتضى رحمته الحكيمة .


فإذا ما وصل المؤمن مع ذلك إلى محبة الله تعالى. فقد أصبح راضياً الرضا كله، ودخل في نطاق:
(رضى الله عنهم . ورضوا عنه)


ولكن أمر الرضا يلتبس على بعض الناس ، فيما يتعلق بالسلبية والإيجابية.


هل الرضا يتنافى مع العمل؟


هل الرضا يقتضي ألا يحاول الإنسان الخروج من الضيق إلى السعة ؟ ومن الذل إلى العز؟ ومن الهزيمة إلى النصر؟ ومن العسر إلى اليسر؟ ومن الحسن إلى الأحسن؟ ومن الشريف إلى الأشرف؟
هل الرضا أن تسكن مستسلماً؟
كلا !!!
وإذا اتجه أحد إلى ذلك فإنه يكون تلبيساً إبليسياً- على حد تعبيرات ابن الجوزي.


إن القرآن الكريم يذكر الرضا في مواقف كثيرة :
( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحاً قريباً)


لقد رضى الله عنهم إذ يبايعون على القتال والجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى:


يقول الإمام الألوسي:
وأصل هذه البيعة – وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها:
(لقد رضي )..


أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، لما نزل الحديبية بعث خراشاً – بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء المهملة ، وألف بعدها شين معجمة – ابن أمية الخزاعي، رسولاً إلى أهل مكة، وحمله على جمل له ، يُقال له : الثعلب، يُعلمهم أنه جاء معتمراً لا يريد قتالاً، فلما أتاهم ، وكلمهم عقروا جمله ، وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى الرسول ، صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا عمر رضى الله عنه، ليبعثه.


فقال عمر: يارسول الله إن القوم قد عرفوا عداوتي لهم ، وغلظي عليهم، وإني لا آمن وليس بمكة أحد من بني عدي، يغضب لي إن أوذيت.

فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وهم يحبونه، إنه يبلغ ما أردت، فدعا رسو ل الله عثمان فأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عُماراً، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله تعالى يظهر دينه بمكة .


فذهب عثمان رصى الله تعالى عنه، إلى قريش ، وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته، وحمله عليها وأجاره، فأتى قريشاً فأخبرهم فقالوا له : إن شئت فطف بالبيت ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه ، فقال رضى الله عنه:


ما كنت لأطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فاحتبسوه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين أن عثمان قد قُتل، فقال عليه الصلاة والسلام:
لا نبرح حتى نناجز القوم.
ونادى مناديه علىه الصلاة والسلام :
ألا إن روح القُدس قد نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأمره بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه، فثار المسلمون إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبايعوه.


قال جابر كما في صحيح مسلم: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت!.


وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله – عليه الصلاة والسلام – تحت الشجرة – سألوه – علي أي شيء تبايعونه يومئذ؟

قال: على الموت.
وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان آخذاً بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يبايع الناس…


ويقول تعالى :
( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا أباءهم ، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضى الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون)


إن الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه لا يوادون من حاد الله ورسوله ، وإنما يعادونهم ويحاربونهم!


ورضا الله تعالى إنما هو أن يقف الإنسان موقفاً في وجه كل من يحاد الله ورسوله ، يقول تعالى:
(وليجدوا فيكم غلظة)


ويتحدث الله سبحانه عن جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فساداً ، فيقول:


( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )


فالحرب دائرة على مر الزمن بين أنصار الله وأعدائه ، بين من ينتصرون للفضيلة ، ومن يحاولون إشاعة الرذيلة، بين عباد الرحمن ، وأتباع الشيطان.
وحزب الله الذي يدخل في إطار هؤلاء الذين:
(رضى الله عنهم ورضوا عنه)


إنما هذه الطائفة التي يقول عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، فيها:


ما تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى تقوم الساعة.


وهم ظاهرون على الحق بكل ما في استطاعتهم من إمكانات ، ظاهرين على الحق بالسيف ، ظاهرين على الحق بالمنطق ! ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو إمام المحبين ، وسيد الراضين ، كانت حياته كلها كفاحاً في سبيل الله تعالى:


جهاداً بالسيف، وجهاداً بالقول، لقد كانت جهاداً قولاً وعملاً ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم ، الأسوة للراضيين.

ما معنى الرضا؟


إن معنى الرضا أن يبذل الإنسان جهده ليصل إلى ما يحبه الله ورسوله، ولكنه من قبل الوصول إليه ، وفي أثناء محاولاته للوصول إليه مطمئن إلى النتيجة على أي وضع أحبها الله، راض بها
إن : ( إليه المصير ).
وإن: (إليه يرجع الأمر كله)


يجب أن يكون كل ذلك واقراً في ذهنه ، مفعماً به شعوره، مع إيمانه بأنه سبحانه حكيم ، رحمن ، رحيم ، إنه الرضا !


يقول صاحب اللمع:
والرضا باب الله الأعظم
وجنة الدنيا وهو أن يكون قلب العبد ساكناً، تحت حُكم الله عز وجل

قلمعبدالعزيز صبره الرفاعي

المصدر:
الإمام الدكتور عبدالحليم محمود
شيخ الأزهر الأسبق ..ومن كبار أئمة التصوف وكبار الصوفية
كتاب قضية التصوف – المنقذ من الضلال

تابع موقع الموضوع على جوجل نيوز الان

زر الذهاب إلى الأعلى