دين ودنيا

رينيه جينو ..عبد الواحد يحيى .. الصوفي الذي حرَّمت الكنيسة  ذكر اسمه

هو غزالي أوربا الذي كشف المؤامرة على الصوفية ، وواجه مخطط استئصال روح الإسلام، وتحويله إلى العنف والإرهاب..ذاك هو العالم الصوفي الكبير رينيه جينو- أو عبدالواحد يحيى، والذي كان إسلامه ثورة كُبرى هزت ضمائر الكثير من ذوي البصائر الطاهرة، فاقتدوا به: واعتنقوا الإسلام ، وكونوا جماعات مؤمنة مخلصة تعبد الله على يقين في معاقل الكاثوليكية، في فرنسا، وفي سويسرا.. فهو العالم الفيلسوف الحكيم ، الصوفي – رينيه -الذي يدوي اسمه في أوروبا قاطبة وفي أمريكا، والذي يعرفه كل هؤلاء الذين يتصلون اتصالاً وثيقاً بالدراسات الفلسفية الدينية في أوروبا ، أو في أمريكا.

وكان سبب إسلامه بسيطاً منطقياً في آن واحد :

 أراد أن يعتصم بنص مقدس، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يجد – بعد دراسة عميقة – سوى القرآن، فهو الكتاب الوحيد الذي لم ينله التحريف ولا التبديل : لأن الله تكفل بحفظه ، وحفظه حقيقة :

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾

لم يجد سوى القرآن نصاً مقدساً صحيحاً، فاعتصم به ، وسار تحت لوائه، فغمره الأمن النفساني في رحاب القرآن.

ومؤلفاته مشهورة من بينها كتاب: أزمة العالم الحديث، كشف فيه عن الانحراف الهائل ، الذي تسير فيه أوروبا ، والضلال المبين الذي أعمى الغرب عن سواء السبيل.

إنسانية الشرق ومادية الغرب:

أما كتابه الشرق والغرب ، فهو من الكتب الخالدة ، التي تجعل كل شرقي يفخر بشرقيته، وقد رد به إلى  الشرق اعتباره ، مبيناً أصالته في  الحضارة، وسموه في التفكير، وإنسانيته التي لا تُقاس بها مادية الغرب، وفساده ، وامتصاصه للدماء وعدوانه الذي لا يقف عند حد ، وظلمه المؤسس على المادية والاستغلال، ومظهراً في كل صفحة من صفحاته نُبل الشرقيين وعمقهم ، وفهمهم للأمور فهماً يتفق مع الفضيلة، ومع أسمى المبادئ الإنسانية..

من هو رينيه جينو أو عبدالواحد يحيى ؟

رينيه جينو أو عبد الواحد يحيى ، من الشخصيات التي أخذت مكانها في التاريخ ، يضعه المسلمون بجوار الإمام أبو حامد الغزالي – حجة الإسلام – وأمثاله من كبار العلماء والمشايخ والصوفية، ويضعه غير المسلمين بجوار أفلوطين ، صاحب الأفلاطونية الحديثه، وأمثاله.

وكان من حُسن حظ   رينيه -عبدالواحد يحيى، أنه نال التقدير الذي يستحقه أثناء حياته ، وبعد وفاته..أما أثناء حياته فقد حرمت الكنيسة قراءة كتبه ، والكنيسة لا تفعل هذا إلا مع كبار المفكرين الذين تخشى خطرهم، وقد وضعته بجوار عباقرة الفكر، الذين اتخذت تجاههم نفس المسلك ، ولكنها رأت في (رينيه – عبدالواحد يحيى) خطراً يكبر كل خطر سابق، فحرمت حتى الحديث عنه.

اقرا: كيف تتصوف يا فتى .. من التوبة عن المعاصي ..وصولاً لمقام الرضا –1

انتشار عبدالواحد يحيى عالمياً:

وإذا كان هذا تقديراً سلبيا له قيمته، فهناك التقدير الإيجابي . الذي لا يقل في أهميته عن التقدير السلبي، فهناك هؤلاء الذين استجابوا لدعوة (رينيه جينو – عبدالواحد يحيى)، فألفوا جمعيات في جميع العواصم  الكبرى في العالم، وعلى الخصوص، في سويسرا ، وفي فرنسا ، والمكونون لهذه الجمعيات احتذوا حذو رينيه جينو فاتخذوا الإسلام ديناً ، والطهارة والإخلاص وطاعة الله شعاراً وديناً ، ويكونون ، وسط هذه المادية السابغة، وهذه الشهوات المتغلبة ، واحات جميلة، يلجأ إليها كل من أراد الطُهر والطمأنينة.

ومن التقدير الإيجابي أيضاً أن كُتبه برغم تحريم الكنيسة لقراءتها ، قد انتشرت في جميع أرجاء العالم، وطبعت كثيراً، وتمت ترجمة العديد منها لكثير من اللغات الحية ، عدا العربية للأسف..

ومن الطريف: أن بعض كتبه ترجم إلى لغة: الهند الصينية ، ووضعت كشرح للوصية الأخيرة من وصايا الدالاي لاما ، ولا يوجد في الغرب شخص متخصص في تاريخ الأديان ، إلا وهو على علم بأراء (رينيه جينو – عبدالواحد يحيى).. كان كل هذا التقدير في حياته.

اقرا:كيف تتصوف يا فتى .. من التوبة عن المعاصي ..وصولاً لمقام الرضا –2

أراء عبدالواحد يحيى لا تنقض:

أما بعد وفاته، فقد تضاعف التكريم ، لقد كتبت عنه جميع صحف العالم ومنها بعض الصحف المصرية، مثل المصور، وكتبت عنه في استفاضة، وكذلك الصحف الإفرنجية، كمجلة إيجيبت نوفل، واستمرت في الكتابة عنه عدة أسابيع، وكتبت عنه كل عام في ذكراه.

وقد خصصت عنه مجلة فرنسا آسيا ، وهي مجلة محترمة ، عدداً ضخماً، كتب فيه كبار الكتاب الشرقيين والغربيين ، وافتتحه شاعر فرنسا الكبير ، اندريه جيد، بقوله عن  (رينيه جينو- عبدالواحد يحيى)، في صراحة لا لبس فيها:  إن آراء (رينيه جينو – عبدالواحد يحيى ) لا تنقض.

وخصصت مجلة : (ايتودترا ديسيونيل) ، وهي المجلة التي تعتبر في الغرب كله : لسان التصوف الصحيح، عدداً ضخماَ، كتب فيه أيضاً كبار الكتاب الشرقيين والغربيين.

ثم خصص له الكاتب الصحفي  الشهير، بول سيران، كتاباً ضخماً،  تحدث فيه عن حياته وعن آرائه، ووضعه كما وضعه الآخرون الذين كتبوا عنه ، في المكان اللائق به ، بجوار الإمام الغزالي أو الحكيم أفلوطين.

البحث عن الحقيقة:

نشأ (رينيه جينو- عبدالوحد يحي) في فرنسا في أسرة كاثوليكية ، ثرية محافظة ، نشأ مرهف الحس ، مرهف الشعور، مرهف الوجدان ، متجهاً بطبيعته إلى التفكير العميق والأبحاث الدقيقة.

 حينما نضج تفكيره، أزعجه ما عليه قومه من ضلال، فبدأ يبحث عن الحقيقة.

أين الحقيقة؟ سؤال وجهه (رينيه جينو) إلى نفسه، كما وجهه من قبل إلى نفسه : الإمام المحاسبي، والإمام الغزالي، والإمام محي الدين بن عربي، وكما وجهه من قبلهم عشرات من المفكرين والذين رفضوا الاستسلام للتقليد الأعمى..

وتأتي فترة الشك، والحيرة، والألم الممض، ثم يتأتى عون الله ، وكان عون الله ، بالنسبة لـ(رينيه جينو) : أن بهرته أشعة الإسلام الخالدة، وغمره ضياؤه الباهر فاعتنقه ، وتسمى باسم الشيخ عبدالواحد يحيى ، وأصبح جندياً من جنود الإسلام يدافع عنه ، ويدعو إليه.

الدفاع عن روحانية الإسلام:

بدأ الشيخ عبدالواحد يحيى يدافع عن الإسلام ، ويكشف الافتراءات عليه، ومن ذلك ما كتبه في كتابه (رمزية الصليب) والذي فند به الفرية التي تقول أن الإسلام انتشر بالسيف، وكذلك ما كتبه في مجلة (كاييه دي سود) في عددها الخاص بالإسلام والغرب، دفاعاً عن الروحانية الإسلامية.. لقد أنكر الغربيون روحانية الإسلام ، أو قللوا من شأنها ، وأشادوا بروحانية المسيحية وأكبروا من شأنها، ووضعوا التصوف المسيحي، في أسمى مكانة ، وقللوا من شأن التصوف الإسلامي.

سمو التصوف الإسلامي وروعته:

كتب الشيخ عبدالواحد يحيى مبيناً سمو التصوف الإسلامي وروعته، وقارن بينه وبين ما يسمونه بالتصوف المسيحي، أي (الميستسيسيم) وأنتهى بأن هذا الميستسيسيم) لا يمكنه أن يبلغ بعض ما بلغه التصوف الإسلامي من سمو، ومن جلال.

على أن الشيخ عبدالواحد يحيى لم يشد بالإسلام فحسب، وإنما أشاد في جميع كتبه ، وفي مواضع لا يُمكن حصرها، أشاد بالشرق، ثم خصص كتاباً ضخماً بعنوان :الشرق والغرب تُزيل قراءته من نفس كل شرقي مركب النقص الذي غرسه الاستعمار في نفوس الشرقيين.

لقد دأب الاستعمار أن يغرس في نفوس الشرقيين: أنهم أقل حضارة، بل أقل إنسانية من الغربيين.. وأتى الشيخ عبدالواحد فقلب الأوضاع رأساً على عقب ، وبين للشرقيين قيمتهم، وأنهم منبع النور والهداية، ومشرق الوحي والإلهام.

إن كل شرقي يفخر بشرقيته بمجرد قراءته لهذا الكتاب ، وهو ليس كتاباً يشيد بالشرق على الأسلوب الصحفي ، أو على الطريقة الإنشائية ، وإنما هو كتاب علمي بأدق المعاني لكلمة علم ، وهذا وحده يكفي لأن يقيم الشرقيون مظاهر التكريم للشيخ عبدالواحد . اعترافاً منهم بالجميل.

ومما  كتب الشيخ عبد الواحد يحيى ، وترجمه من الفرنسية فضيلة الإمام الأكبر الدكتور- عبدالحليم محمود- شيخ الأزهر الشريف الأسبق ، ومن كبار أئمة الصوفية ، رضى الله عنه وأرضاه:

بين الظاهر والباطن :

ربما كانت العقيدة الإسلامية – من بين العقائد السماوية – هي العقيدة التي يظهر فيها بوضوح التفرقة بين جزأين متكاملين هما: «الظاهر» و«الباطن»؛ أي «الشريعة» وهي الباب الذي يدخل منه الجميع، و«الحقيقة» ولا يصل إليها إلا المصطفَون الأخيار، وهذه التفرقة ليست تحكمية، وإنما تفرضها طبيعة الأشياء؛ ذلك أن استعداد الناس متفاوت، وبعضهم مُعَدٌّ بفطرته لمعرفة الحقيقة.

وكثيرًا ما نجدهم يشبهون الشريعة والحقيقة بالقشر واللُب، أو بالدائرة ومركزها، والشريعة تتضمن – فضلًا عن الناحية الاعتقادية- الناحية التشريعية والناحية الاجتماعية، وهما جزءان لا يتجزآن عن الدين الإسلامي، إنها أولًا وقبل كل شيء قاعدة للسلوك، أما الحقيقة فإنها معرفة محضة، ولكن يجب أن نعلم أن هذه المعرفة هي التي تعطي الشريعة معناها السامي العميق، بل هي التي تبرر وجود الشريعة إنها في الحقيقة – وإن لم يشعر بذلك المؤمنون – المركز الأساسي، مثلها في ذلك مثل مركز الدائرة بالنسبة لمحيطها.

بيدَ أن «الباطن» لا يعني فقط الحقيقة، وإنما يعني كذلك السبل الموصلة إليها، أعني الطرق التي تقود الإنسان من الشريعة إلى الحقيقة.

وإذا رجعنا إلى الصورة الرمزية، الدائرة ومركزها، قلنا: إن الطريقة هي الخط الذاهب من محيط الدائرة إلى المركز، وكُلُّ نقطة على محيط الدائرة هي مبدأ الخط، وهذه الخطوط التي لا تحصى تنتهي كلها إلى المركز.

إنها «الطرق» وهي طرق تختلف تبعًا لاختلاف الطبائع البشرية.

ولهذا يقال: «الطرق إلى الله بعدد نفوس بني آدم».

ومهما اختلفت فالهدف واحد؛ لأنه لا يوجد إلا مركز واحد وإلا حقيقة واحدة، على أن هذه الاختلافات الموجودة في المبدأ تزول شيئًا فشيئًا مع زوال الآنيَّة، وذلك حينما يصل السالك إلى درجات عليا تزول فيها «صفات العبد» التي ليست إلا سجنًا: «الفناء»

(أي تفنى بشرية العبد وطينيته) ، فلا تبقى إلا الصفات الربانية وقد تحققت «الذات» بها «البقاء».

( أي حينما يفنى العبد في الله الباقي فهذا هو البقاء .. أما أن يفنى العبد في ملذاته وشهواته فذاك هو الفناء أو كما قالوا الفناء في الفاني فناء ..والفناء في الباقي بقاء )

والطريقة والحقيقة مجتمعتان يطلق عليهما: التصوف، وهو ليس مذهبًا خاصًّا؛ لأنه الحقيقة المطلقة، وليست الطرق مدارس مختلفة لأنها طرق، أي سبل موصلة جميعها إلى الحقيقة المطلقة: «التوحيد واحد».

سر الصوفي الحقيقي :

ويجب أن يلاحظ أنه لا يمكن لأحد أن يطلق على نفسه أنه صوفي، اللهم إلا إذا كان ذلك منه جهلًا محضًا؛ لأنه بذلك يبرهن على أنه حقيقة ليس بصوفي, وذلك أن هذه الصفة «سر» بين الصوفي الحقيقي وبين ربه, ويمكن أن يقول الإنسان عن نفسه إنه متصوف, وهو عنوان يطلق على «السالك» في أي مرحلة كان، ولكن الصوفي بمعناه الحقيقي لا يطلق إلَّا على من بلغ الدرجة العليا.

 أما أصل هذه الكلمة: صوفي, فقد اختلف فيه اختلافًا كبيرًا, ووضعت فروض متعددة, وليس بعضُها بأولى من بعض, وكلها غير مقبولة, إنَّها في الحقيقة تسمية «رمزية», وإذا أردنا تفسيرها ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة  العددية  لحروفها, وإنَّ لَمن الرائع أن نلاحظ أن القيمة العددية لحروف «صوفي» تماثل القيمة العددية لحروف، الحكمة الإلهية ،  فيكون الصوفي الحقيقي هو الرجل الذي وصل إلى الحكمة الإلهية, إنه «العارف بالله» وتلك هي الدرجة العظمى «الكلية» فيما يتعلق بمعرفة الحقيقة.

من كل ما سبق يمكننا أن نستنتج أن الصوفية ليست شيئًا أضيف إلى الدين الإسلامي, إنها ليست شيئًا أتى من الخارج فألصق بالإسلام، وإنما هي بالعكس تكون جزءًا جوهريًّا من الدين؛ إذ إن الدين بدونها يكون ناقصًا، بل يكون ناقصًا من جهته السامية أعني جهة المركز الأساسي.

لذلك كانت فروضًا رخيصة تلك التي تذهب بالصوفية إلى أصل أجنبي: يوناني, أو هندي فارسي, وهي معارضة بالمصطلحات الصوفية نفسها, تلك المصطلحات التي ترتبط باللغة العربية ارتباطًا وثيقًا، وإذا كان هناك من تشابه بين الصوفية وبين ما يماثلها في البيئات الأخرى فتفسير هذا طبيعي لا يحتاج إلى فرض الاستعارة؛ وذلك أنه ما دامت الحقيقة واحدة فإن كل العقائد السُّنِّيَّة تتحد في جوهرها وإن اختلفت فيما تلبسه من صور.

ويجب ألَّا نعطي عناية كبيرة -حينما نتحدث عن أصل التصوف- لتلك المناقشات التي لا تنتهي بين مؤرخي التصوف خاصة لتحديد الفترة الزمنية التي وجدت فيها لفظة صوفي.

فإن الشيء قد يوجد قبل اسمه الخاص, سواء وجد تحت اسم آخر أو وجد ولم تكن هناك الحاجة لتسميته، وعلى كل حال ففيصل الحق في مسألة أصل التصوف هو ما يأتي:

 إن السنة ترشد في صراحة لا لبس فيها إلى أن الشريعة والحقيقة كليهما ينبعان مباشرة من تعليمات الرسول صلوات الله عليه. والواقع أن كل طريقة صحيحة تعتمد على «سلسلة» تصل دائمًا إلى الرسول. وإذا كانت بعض الطرق, فيما بعد, «استعارت» أو بتعبير أصح «تبنت«بعض التفاصيل في الطريق [وإن كان التشابه هنا أيضًا يمكن أن يرجع إلى التماثل في المعارف وعلى الخصوص فيما يتعلق بعلم المقاطع والأوزان في مختلف فروعه] فإن أهمية ذلك لا تعدو أن تكون أهمية ثانوية لا تمس الجوهر من قريب أو من بعيد.

 والحق أن التصوف عربي إسلامي, كما أن القرآن – الذي يستمد التصوف أصوله منه مباشرة, عربي إسلامي إذا كان التصوف يستمد أصوله من القرآن, فمن الطبيعي ألَّا يوجد قبل أن يفهم القرآن ويفسر ويتدبر تدبرًا تتفجر عنه ينابيع «الحقائق» التي هي في الواقع معناه العميق، ولقد فسر القرآن أولًا لغويًّا ومنطقيًّا وكلاميًا, ولكن تفسيره صافيًا اقتضى مرور زمن لتأمله في عمق وشمول، وإذا كان القرآن مصدر الشريعة والحقيقة معًا فلا يوجد بينهما تناقض أو اختلاف ما، وكيف يوجد الاختلاف ومصدرهما واحد! وكيف يوجد الاختلاف والحقيقة لا تقوم إلا على الشريعة في أساسها وفي سندها.

التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي المزعوم:

إن التصوف الإسلامي -خلافًا للفكرة الشائعة حاليًّا عند الغربيين – لا يمت بأية صلة إلى ما يزعمون أنه تصوف مسيحي, أعني ذلك النوع الذي يطلق عليه «الميستيسيسم»، أما أسباب ذلك فإنها سهلة الفهم وقد تضمنها ما سبق من حديثنا وهي:

1- يبدو واضحًا أن «الميستيسيسم» شيء خاص بالمسيحية، وإنه لتشبيه قائم على ضلال, ذلك الذي يستندون إليه في ادعاء وجود ما يماثل «الميستيسيم» في الأوساط التي لا تعتنق المسيحية.

ولا شك في أن هذا الفهم الخاطئ يرتكز على شيء من التشابه الخارجي الذي يتمثل في استعمال بعض التعبيرات، ولكن هذا لا يبرر أبدًا دعوى التشابه؛ وذلك لأن الفروق الجوهرية تفجأ النظر ولا تدع للتماثل مجالًا, فالميستيسيسم خاص بالمسيحية إذن.

2- ثم إنه جزء من الشريعة, إنه من قسم الظاهر, وهدفه بعيد كل البعد عن أن يكون المعرفة المحضة في حين التصوف على خلاف ذلك.

3- ثم إن المسيحي الذي اتخذ «الميستيسيسم» سبيلًا في الحياة ينهج في سلوكه منهجًا سلبيًّا، إنه يقتصر على تلقي ما يأتيه بدون أن يكون له أثر شخصي, إنه لا طريقة له إذن يسلكها هدفًا من وراء سلوكها إلى بلوغ غاية معينة.

ومن أجلِ ذلك لم يكن في المسيحية طرق صوفية؛ ولذلك لا يتخذ المسيحي «شيخًا» وليس عنده فكرة عن السلسلة أو الإسناد الذي بواسطته يصل إليه التأثير الروحي الذي لا بد منه في التصوف.

4- والاختلاف في الهدف أيضًا واضح, فهدف التصوف المعرفة, وهدف «الميستيسيسم» الحب, والنتيجة الحتمية من كل ما سبق هي أن التصوف و«الميستيسيسم» مختلفان كل الاختلاف، بل إن اللغة العربية لا تشتمل على أية كلمة تترجم -ولو تقريبًا- كلمة «ميستيسيسم»؛ ذلك أن الفكرة التي تعبر عنها هذه الكلمة غريبة كل الغرابة عن السُّنَّة الإسلامية.

التصوف تحكمه  الشريعة:

يبدو أن كثيرًا من الناس يشكُّون في ضرورة التزام الشريعة لمن يريد أن يسلك السلوك الصوفي, وهذا في الواقع استعداد نفسي لا يوجد إلا في الغرب الحديث.

ولا شك في أن أسباب ذلك متعددة, ولا يعنينا هنا البحث في مدى المسئولية التي تقع على عاتق رجال الدين أنفسهم الذين يميلون إلى إنكار كل ما يتجاوز حدود الشريعة في مظهرها الحرفي؛ فليس ذلك جوهر بحثنا هنا.

بيد أنَّه من المدهش أنَّ بعض من يزعمون الانتساب إلى التصوف يقعون فيما وقع فيه رجال الشريعة, وإن كان بطريقة عكسية؛ ذلك أنهم ينكرون ضرورة الشريعة أو يهملون العمل بها.

وقد يكون من المحتمل أن نرى أحد ممثلي الشريعة يجهل التصوف, وإن كان جهله لا يبرر إنكاره, ولكن ليس من المحتمل وليس من الطبيعي أن يجهل رجال التصوف ميدان الشريعة, ولو من جانبها العملي؛ ذلك أن الأكثر وهو «التصوف», يتضمن بالضرورة الأقل وهو «الشريعة».

على أن نظرة من يريد أن يسلك السلوك الصوفي إلى الشريعة, من حيث عدم أهميتها, وعلى الخصوص, أهمية الجانب العملي منها بالنسبة له، هذه النظرة تتضمن -ولو نظريًّا-تقليل أهمية الجانب العملي في التصوف نفسه، وفي هذا الخطورة كل الخطورة؛ فإنَّه من المشكوك فيه كثيرًا أن يتوفر للشخص الذي عنده الفكرة الاستعداد الصوفي, ومن الخير له أن يلتزم الشريعة التزامًا كليًّا قبل أن يبدأ السلوك, فإذا لم يمكنه التزامها فلا خير فيه, بالنسبة للجانب الصوفي.

إن تقليل شأن الشريعة إنما هو مظهر من مظاهر الروح التي لا تبالي بما أنزل الله، وإعادة تكوين الرُّوح الخاضعة لما أنزل الله هو أول خطوة في طريق السالكين.

وتجاهل الناحية العملية إنَّما هو سِمَة من سمات الغريب الحديث على الخصوص, ومن الطبيعي أن يقوم الجو الدنيوي الذي يعيش فيه الغربيون عَقَبة في سبيل فهمهم للجانب العملي من الشريعة وممارستهم له؛ بيد أنَّ مقاومتهم لهذا الجو الدنيوي, هو بالضبط العلاج لانحرافهم هذا، وهو السبيل إلى عودتهم إلى النهج المستقيم, أعني التزام الشريعة.

قلنا: إنَّ الاتجاه النفسي الذي نتحدث عنه هنا, إنما هو سمة من سمات الغرب الحديث، وفي الواقع لا يمكن أن يوجد هذا الاتجاه في الشرق؛ ذلك أن الروح الدينية الصحيحة لا تزال مسيطرة في بيئاته.

ثم إنَّ الشريعة والحقيقة متصلتان اتصالًا يجعل منهما مظهرين لشيء واحد, أحدهما خارجي والآخر داخلي, أو أحدهما ظاهر والآخر باطن.

لذلك كان ما يوجد في الغرب الآن, من جماعات تدَّعي أنها على النهج الصوفي, وهي مع ذلك لا ترتكز على أية شريعة إلهية, مجرد خداع, ومن البديهي أن هذه الجماعات- ومن وجهة النظر الصوفية الصحيحة- ليست على شيء.

ولشرح الأشياء بأبسط الطرق نقول:

إن الإنسان لا يشيد القصر في الهواء, إنَّه لا يشيده على غير أساس, وكل فكرة لا ترتكز على أساس من السنة الصحيحة إنَّما هي بناء في الهواء، إنها بناء على غير أساس، والبناء الذي يمكن أن يبقى على الدهر لا بد له من أساس مدعم, وعلى الأساس يرتكز البناء كله, حتى الأجزاء العليا منه, والارتكاز على الأساس يستمر حتى بعد انتهاء البناء.

وعلى هذا النَّمَطِ تكون النسبة بين الشريعة والتصوف, فالشريعة الصحيحة هي الأساس الذي لا بد منه لكل سالك, وكالأساس تمامًا, لا يمكن طرح الشريعة بعد سلوك الطريق.

بل نقول أكثر من ذلك: إنَّه كلما سار التصوف في طريقه واستغرق فيه, بَدَت له ضرورة الشريعة واستنارت معرفته بها, وأصبح فهمه لها أكثر عمقًا وأكثر دراية بحقيقتها من هؤلاء الذين درسوها وآمنوا بها بدون أن يضرِبوا بسهم في الميدان الصوفي؛ ذلك أنهم لا يرون من الشريعة إلا مظهرها الخارجي, ولكن الصوفي يعيش في جوها الروحي, ويحياها إذا أمكن هذا التعبير.

على أنَّ هذا الذي لا يعتنِق شريعة صحيحة ولا يلتزمها, لا يمكن أن يحيا إلا حياة دُنيوية بحتة؛ فلا يمكن أن يُطلق عليه رجل دين, فضلًا عن أن يطلق عليه وصف الصوفي.

على أن الغربيين الذين يجعلون الدين بمعزل عن نشاطهم اليومي, كما هو شأن الأكثرية الساحقة منهم, لا يمكن أن يوصفوا بأنهم متدينون, وإن آمنوا بعيسى وأدوا الشعائر الكنسية.

وإذا كان لا يقبل من رجل الدين أن يعلن تدينه بدون أن يجعل للشريعة السيطرة على قياده, فإنه لا يقبل من باب أولى من رجل التصوف أن يزعم انتسابه إلى الصوفية دون أن تسيطر شعائر الدين والتزاماته على حياته.

وهناك -لا شك- نوعان من الحياة: حياة دينية, وحياة دنيوية, ومع ذلك فالفرق بينهما إنَّما هو من جهة ما تصطبغ به فكرة الإنسان عن الأعمال التي يؤديها.

أريد أن أقول: إنَّ الأعمال في نفسها لا توصف بأنها دينية أو دنيوية, وإنَّما يتأتى لها أحد الوصفين بسبب سيطرة الفكرة الدينية عند القائم بهذه الأعمال أو عدم سيطرتها, وقد يكون العمل واحدًا في نوعه ويؤديه شخصان, فيوصف عند أحدهما بأنه ديني, وعند الآخر بأنه دنيوي.

فإن كان القصد «لله» فالعمل ديني, وإن كان القصد شيئًا آخر فالعمل دنيوي, والحديث الشريف يوضح هذه الفكرة كل التوضيح: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها, فهجرته إلى ما هاجر إليه».

ومن البديهي أن الحديث في أوله عام بالنسبة لكل الأعمال, وإن مسألة الهجرة فيه تطبيق جزئي لقضية عامة.

وفي العصور القديمة لم يكن هناك تفرقة بين دين ودنيا, بل لم يكن مجرد الفهم أو مجرد التخيل لفكرة الانفصال هذه, وإنما نشأت هذه الفكرة حينما تدهورت الإنسانية وانحطت شيئًا فشيئًا, وها نحن أولاء قد وصلنا في هذا التأخر إلى أن الغرب حاليًّا يصعب عليه كل الصعوبة أن يفهم فكرة ضرورة سيادة الروح الدينية في مجتمعاته, إنه على نهج انفصالي لا يوجد في الحياة السليمة.

وإننا نرى ضرورة التزام الشريعة لكل إنسان, ولكننا – ونحن على يقين من الأمر- لهؤلاء الذين يريدون أن يسلكوا الطريق الصوفي بأنهم لن يصلوا حتى إلى أولى مراحل الطريق إذا لم يلتزموا الشريعة التزامًا تامًّا، وبالله التوفيق.

علوم التصوف:

إن التصوف في جوهره معرفة في محيط ما وراء الطبيعة، على أن التصوف وإن كان «معرفة» عُليا فإن بعض العلوم تتصل به اتصالًا وثيقًا, بل إنَّها ليست إلا تطبيقًا لبعض جوانبه, وهذا مما يميزه أيضًا عن «الميستيسيسم», من هذه العلوم علم الفلك القديم, وهو ليس «تنجيمًا» كما يعتقد الباحثون الحديثون, وإنما يتعلق بمعرفة أسمى وأعمق, وكذلك الأمر في الكيمياء القديمة, إنها ليست استخراج الذهب الحقيقي من المعادن الحقيقية, وإنما كانت رمزًا لمعرفة لا صلة لها بالمادة وليس لها بالكيمياء الحديثة أي ارتباط أو تشابه.

إن الباحثين الحديثين لا يعرفون عن المعنى الحقيقي لهذين العلمين شيئًا, على أن هناك علومًا أخرى لا يعرف عنها متفلسفةُ العصر الحديث إلا اسمها, مع أنَّها كانت من الدقة بحيث تبلغ درجة العلوم الرياضية.

من شروط التصوف:

ولا بد في التصوف من شرط جوهري هو «التأثير الروحي» أو بتعبير أدق «البركة» وهي لا تتأتى إلا بواسطة «شيخ»، ومن هنا كانت «الطرق»، ومن هنا كانت السلسلة. وهل السلسلة إلا بركات تنتقل من شيخ إلى مريد يوشك أن يصبح شيخًا فيؤثر بدوره في مريد أو مريدين؟.

ونختم هذه الكلمة بملاحظة جوهرية تعلق بطبيعة التصوف وهي:

أن التصوف ليس عملًا علميًّا ولا بحثًا نظريًّا، إنَّه لا يُتعلم بواسطة الكتب على الطريقة المدرسية، بل إن ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لا يستخدم إلا كحافز مقوٍّ للتأمل، والإنسان لا يصير بمجرد قراءته متصوفًا، على أن ما كتبه كبار الصوفية لا يفهمه إلا من كان أهلًا لفهمه. ولأجل أن يسير الإنسان في طريق التصوف لا بد له من:

1- استعداد فطري خاص لا يغني عنه اجتهاد أو كسب.

2- الانتساب إلى «سلسلة» صحيحة؛ إذا أن البركة التي تحصل من الانتساب إلى السلسلة الصحيحة هي الشرط الأساسي الذي لا يصل الإنسان بدونه إلى أي درجة من درجات التصوف حتى البدائية منها.

3- ثم يأخذ المتصوف الطيب الفطرة الذي باركه شيخه في الجهاد الأكبر «التأمل الروحي»، وفي الذكر؛ أي استحضار الله في كل ما يأتي وما يدع، وفي تركيز الذهن في الملأ الأعلى، فيصل موفقًا من درجة إلى درجة حتى يصل إلى أعلى الدرجات، وهي حالة تسمو على حدود الوجود المؤقت فيصبح ربانيًّا، ذلك هو الصوفي الحقيقي.

مقامات الوصول:

وحينما يقطع الإنسان الطريق يصل إلى الولاية.

والولي إما أن يمكث وليًّا فقط فتكون معرفته خاصة به، أو يختاره الله لتأديه رسالة إلى الآخرين فيكون نبيًّا، أو يكون رسولًا، والرسول نبي ولكن رسالته تأخذ صبغة عالمية، أما رسالة النبي فإنها محددة الأهداف محدودة المكان، إن الرسول مظهر الصفة الإلهية «الرحمن» في جميع أنحاء العالمين، إنه «رحمة للعالمين» فلا تقتصر رسالته على دائرة خاصة، ولا شك أن النبوة أسمى من الولاية، ومع ذلك فقد رأى بعضهم أن مقام الولي «القرب» من الله، في حين أن النبي متجه بطبيعة رسالته إلى الخلق، ولكن ذلك خطأ محض؛ فإن النبوة تتضمن الولاية فهي متضمنة لمقام القرب، ثم إنها أكثر من الولاية، وعلى ذلك فإن حالة الولي «ناقصة» بالنسبة لحالة النبي، إنها ليست قاصرة بالنسبة لطبيعتها الخاصة، ولكنها قاصرة بالنسبة لدرجتها في العموم وهذا العموم يصل إلى أعلى درجات ازدهاره في الرسالة؛ إذ هي عالمية، والرسول -لا غيره- هو حقيقة «الإنسان العالمي».

وللرسول كما للنبي اتجاهان:

1- اتجاه داخلي: إنه الاتجاه نحو الحق.

2- اتجاه خارجي:إنه الاتجاه نحو الخلق.

ودرجة الرسول العالمية أسمى من درجة النبي المحدودة، ودرجة النبي المحدودة أعلى من درجة الولي الخاصة، ومقام الجميع القرب.

                                                       قلمعبدالعزيز صبره الرفاعي:

تابع موقع الموضوع على جوجل نيوز الان

رينيه جينو

رينيه جينو

زر الذهاب إلى الأعلى